رأيت من أعظم حيل الشيطان ومكره أن يحيط1 أرباب الأموال بالآمال، والتشاغل باللذات القاطعة عن الآخرة وأعمالها! فإذا "شغلهم"2 بالمال تحريضًا على جمعه، وحثًّا على تحصيله، أمرهم بحراسته بخلًا به، فذلك من متين حيله، وقوي مكره.
ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية أن خوف من جمعه المؤمنين، فنفر طالب الآخرة منه، وبادر التائب يخرج ما في يده.
ـــــــ
1 في الأصل: يحبط، وليس بشيءٍ.
2 في الأصل: "أهلهم" وما أثبته من "ط".
ولا يزال الشيطان يحرضه على الزهد، ويأمره بالترك، ويخوفه من طرقات الكسب، إظهارًا لنصحه، وحفظ دينه، وفي خفايا ذلك عجائب من مَكْرِهِ!
وربما تكلم الشيطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب؛ فيقول له: اخرج من مالك! وادخل في زمرة الزهاد! ومتى كان لك غداء أو عشاء، فلست من أهل الزهد، ولا تنال مراتب العزم، وربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة، والواردة على سبب ولمعنى؛ فإذا أخرج ما في يده، وتعطل عن مكاسبه، عاد يعلق طمعه بصلة الإخوان، أو يحسن عنده صحبة السلطان؛ لأنه لا يقوى على طريق الزهد والترك إلا أيامًا، ثم يعود الطبع، فيتقاضى مطلوباته، فيقع في أقبح مما فر منه، ويبذل أول السلع في التحصيل دينه وعرضه، ويصير متمنْدَلًا به1، ويقف في مقام اليد السفلى.
ولو أنه نظر في سير الرجال ونبلائهم، وتأمل صحاح الأحاديث عن رؤسائهم، لعلم أن الخليل عليه الصلاة والسلام كان كثير المال حتى ضاقت بلدته بمواشيه، وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، وكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والجم الغفير من الصحابة.
وإنما صبروا عند العدم، ولم يمتنعوا عن كسب ما يصلحه، ولا من تناول المباح عند الوجود.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم حي، وكان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذ من بيت المال، ويسلم من ذل الحاجة إلى الإخوان.
وقد كان ابن عمر لا يرد شيئًا، ولا يسأل.
وإني تأملت على أكثر أهل الدين والعلم هذه الحال، فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوام نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز.
وقد كانوا قديمًا يكفيهم بيت المال فضلات الإخوان، فلما عدمت في
أي هان عليه دينه وعرضه حتى أصبح كال: منديل الذي يبتذل فتمسح به الأقذار.
هذا الأوان، لم يقدر متدين على شيءٍ إلا ببذل شيء من دينه، وليته قدر، فربما تلف الدين، ولم يحصل له شيء.
فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه، وأن يجتهد في الكسب ليربح مداراة ظالم أو مداهنة جاهل، ولا يلتفت إلى ترهات المتصوفة، الذين يدعون في الفقر ما يدعون، فما الفقر إلا مرض العجزة، وللصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض، اللهم! إلا أن يكون جبانًا عن التصرف، مقتنعًا بالكفاف؛ فليس ذلك من مراتب الأبطال، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد.
وأما الكاسب1 ليكون المعْطِيَ لا المُعْطَى، والمتصدق لا المتصدق عليه، فهي من مراتب الشجعان الفضلاء، ومن تأمل هذا، علم شرف الغنى، ومخاطرة الفقر.
ـــــــ
1 في الأصل: المكاسب، وهو تصحيف.
[b]